هل تبدد عمليات التحوط الثقة بالدولار؟
13:11 - 18 سبتمبر 2025
تتصاعد المخاوف في الأوساط المالية العالمية بشأن مستقبل الدولار الأميركي، مع اتساع نطاق التساؤلات حول مدى متانة موقعه كعملة احتياطية مهيمنة في ظل التغيرات السياسية والاقتصادية الجارية في الولايات المتحدة.
تنبع هذه المخاوف من تحركات الأسواق، وأيضاً من تزايد حالة القلق لدى المستثمرين إزاء السياسات المفاجئة التي تضيف طبقات جديدة من عدم اليقين.
تتزايد الضغوط مع بروز مؤشرات على تحولات عميقة في سلوك المستثمرين الأجانب، الذين باتوا يوازنون بين جاذبية الأصول الأميركية ومخاطر العملة التي تقوَّم بها. ويعكس هذا الميل نحو التحوط تحوّلاً في المزاج العام، إذ لم يعد الدولار يُنظر إليه باعتباره ملاذاً مضموناً كما في السابق.
وفي إشارة إلى تزايد التوتر بشأن تأثير أجندة دونالد ترامب على العملة المهيمنة في العالم، يسارع المستثمرون الأجانب في الأصول الأميركية إلى التحوط من تعرضهم للدولار، وفق صحيفة "فايننشال تايمز".
وبحسب تحليل دويتشه بنك، فإن الاستثمارات المحمية في السندات والأسهم الأميركية تتفوق على الحيازات غير المحمية للمرة الأولى منذ أربع سنوات، بعد تحرك حاد منذ انتخاب ترامب في نوفمبر الماضي.
وقال الخبير الاستراتيجي في دويتشه بنك، جورج سارافيلوس: "ربما عاد الأجانب إلى شراء الأصول الأميركية، لكنهم لا يريدون التعرض للدولار"، مضيفا أن هؤلاء المستثمرين "يزيلون التعرض للدولار بوتيرة غير مسبوقة".
يساعد هذا السلوك على تفسير المفارقة الواضحة في الأسواق الأميركية منذ عمليات البيع الحادة التي أثارتها إعلانات ترامب عن التعريفات الجمركية في "يوم التحرير" في أبريل: كيف حققت أسهم وول ستريت عودة قوية دون إحداث انتعاش في الدولار.
وفقًا لتحليل دويتشه، فإن حوالي 80 بالمئة من إجمالي الأموال، البالغة نحو 7 مليارات دولار، التي تدفقت إلى صناديق الأسهم الأميركية المتداولة في البورصة والمقيمة في الخارج خلال الأشهر الثلاثة الماضية، كانت على أساس التحوط. وكانت هذه النسبة حوالي 20 بالمئة في بداية العام.
يقول المحللون إن ازدياد نشاط التحوط أسهم في تأجيج موجة بيع للدولار هذا العام، تجاوزت 10 بالمئة مقابل سلة من العملات المماثلة، بما في ذلك اليورو والجنيه الإسترليني.
ويقول مديرو الصناديق إن العملاء حريصون على الاحتفاظ بتعرضهم للأسهم الأميركية وسط طفرة الذكاء الاصطناعي لكنهم أقل استعدادا لتحمل مخاطر الدولار.
تحوط
من جانبه، يقول رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets، جو يرق، في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- "نلاحظ في الفترة الحالية تزايداً ملحوظاً في توجه المستثمرين نحو أدوات التحوط نتيجة المخاوف المرتبطة بالدولار الأميركي، خاصة في ظل حالة الضبابية التي خلقتها الحرب التجارية والسياسات المفاجئة للرئيس ترامب".
- "هذا الاتجاه ينعكس سلباً على الدولار والأدوات المقومة به، فيما تستفيد بعض الأدوات المالية الأخرى، لا سيما غير المرتبطة بالعملات".
- كما نشهد انتعاشاً في عملات مثل الفرنك السويسري، اليورو، واليوان الصيني مع زيادة الطلب على التحوط.
ويؤكد أن "تكاليف التحوط ترتفع حالياً، إلى جانب تزايد التقلبات بعد فترة من الاستقرار النسبي في سوق العملات".
ويتابع يرق قائلًا: "في الوقت الراهن تبقى العوامل السياسية والاقتصادية ضاغطة على العملة الأميركية"، مشيراً إلى أن السؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل سنشهد عودة إلى الاستقرار السياسي والابتعاد عن القرارات المفاجئة التي تؤثر على الأسواق العالمية؟.
هيمنة الدولار
ويشير تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" إلى أن إن صعود العملة الأميركية وهبوطها من الصدارة في أوائل القرن العشرين يقدم دروساً للقادة السياسيين اليوم.
ويضيف: الدروس المستفادة هذا العام، تتمثل في أن هيمنة الدولار الدولية ليست أبدية. ولكي تستمر، لا بد من تعزيزها والحفاظ عليها بنشاط. ويجب أن يدعمها مسؤولون أكفاء. رئيسٌ فطنٌ وذو خبرة في الاحتياطي الفيدرالي هو المفتاح. يتدخل السياسيون على مسؤوليتهم الخاصة.
ويشير التقرير إلى اعتقاد البعض الآن بأن وضع الدولار الأميركي كعملة احتياطية عالمية أصبح على أرض مهتزة، لا سيما مع تداعيات رسوم الرئيس ترامب الجمركية، وتنامي ديون أميركا، واستخدامها للعقوبات المالية كأداة في سياستها الخارجية.
لكن بالنسبة للكثيرين، تبدو هذه الادعاءات بعيدة المنال. فمجرد انتشار العملة الأميركية، وضخامة الاقتصاد الأميركي، يعنيان أن دورها الدولي مضمون.
تفكير عميق
بدوره، يقول خبير أسواق المال محمد سعيد لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الزيادة الكبيرة في تحوط المستثمرين من الدولار تعكس حالة من إعادة التفكير العميقة في مكانة العملة الأميركية، مشيراً إلى أن الأمر ليس مجرد حركة فنية في الأسواق. ويوضح أن جذور هذه الظاهرة تعود إلى قلق متزايد بشأن الأوضاع الاقتصادية والسياسية داخل الولايات المتحدة نفسها، مثل استمرار العجزين المالي والتجاري، إلى جانب توقعات خفض الفائدة التي تقلل من جاذبية الدولار.
ويؤكد أن المستثمرين، خصوصاً الأجانب، لم يعودوا يعتبرون الدولار استثماراً مضموناً كما كان في السابق. ويضيف أن ما يحدث حالياً يمثل تحولاً استراتيجياً ذكياً، إذ أن المستثمرين لا يقومون ببيع الأصول الأميركية بالجملة، بل على العكس لا يزال هناك إقبال قوي على الأسهم الأميركية، خاصة في قطاعات واعدة مثل الذكاء الاصطناعي.
ويتابع: "الفكرة الجديدة هي شراء الأصل الأميركي مع بيع مخاطرة الدولار"، أي الاستفادة من نمو الشركات الأميركية مع حماية الاستثمارات من أي انخفاض محتمل في قيمة العملة عبر أدوات مالية مثل المشتقات والعقود الآجلة والمبادلات.
ويشير إلى أن التأثير المباشر لهذه العمليات يبدو واضحاً في الأسواق، حيث إن التحوط الكثيف يخلق ضغطاً بيعياً على الدولار في الأسواق الآجلة، مما يضعف قيمته الفعلية أمام عملات أخرى مثل اليورو والين. كما أن ارتفاع الطلب على أدوات التحوط يؤدي إلى زيادة تكلفتها، ما يجعل حماية الاستثمارات أكثر كلفة سواء بالنسبة للمستثمرين أو الشركات متعددة الجنسيات التي تتعامل بالدولار.
ويختم خبير أسواق المال محمد سعيد بالقول إن لهذه التطورات تداعيات استراتيجية بعيدة المدى، حيث إن هيمنة الدولار التي اعتاد عليها العالم لعقود بدأت تتآكل تدريجياً. فالتحوط الواسع يشير إلى أن كبار المستثمرين ومديري الصناديق العالمية لم يعودوا يتعاملون مع قوة الدولار كأمر مسلم به، بل كخطر يجب إدارته. وهذا بحسب سعيد يفتح الباب أمام عالم متعدد الأقطاب نقدياً، تزداد فيه أهمية عملات أخرى وأصول بديلة مثل الذهب، مشدداً على أننا لا نتحدث عن انهيار مفاجئ للدولار، بل عن بداية مرحلة جديدة تتسم بمزيد من التقلبات والتكاليف المرتفعة وتفرض تنويعا أكبر في الاستثمارات العالمية.









