"ثقة زائفة"؟ الأسواق تقترب من مواجهة الواقع
13:00 - 09 يوليو 2025لطالما عُرفت الأسواق المالية بقدرتها على استيعاب الصدمات وتجاوز التحديات، وكأنها تمتلك مناعة ضد الاضطرابات الاقتصادية والسياسية. ففي الآونة الأخيرة، بدا المستثمرون وكأنهم يتجاهلون العواصف المتتالية التي تلوح في الأفق، من سياسات التجارة المتقلبة إلى الإنفاق الحكومي غير المسبوق والتوترات المتزايدة حول استقلالية البنوك المركزية.
هذا التجاهل الجماعي يثير تساؤلاً جوهرياً حول طبيعة الثقة التي تبديها الأسواق. فهل هذه الثقة زائفة، وهل الأسواق المالية على وشك الاصطدام بالواقع الاقتصادي؟
يواجه الاقتصاد الأميركي تحديات غير مسبوقة، ورغم ذلك، يبدو أن الأسواق المالية تتصرف وكأن "لا شيء يثير القلق". هذه الظاهرة، التي يصفها بعض المراقبين بـ"الثقة الزائفة"، تثير تساؤلات حول مدى فهم المستثمرين للمخاطر الكامنة.
السياسة المالية: فوضى "القانون الجميل"
بحسب مقال نشرته وكالة "بلومبرغ نيوز" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية، فإن "ثلاثية ترامب" المتمثلة في الإهمال المالي، والتعرفات الجمركية، وخفض مكانة البنك المركزي، ليست مجرد "صخب وغضب" بل تشكل مخاطر حقيقية تميل بوضوح نحو الجانب السلبي على الاقتصاد الأميركي، حيث يُنظر إلى هذه السياسات على أنها قد تؤدي إلى تباطؤ النمو وارتفاع التضخم على المدى المتوسط، ما لم يتنبه المستثمرون لهذه التحولات الجوهرية.
وأوضح كاتب المقال كلايف كروك أن السياسات المالية الحالية تشكل مصدر قلق كبير، خصوصاً مع إقرار "قانون مشروع القانون الكبير الجميل" (The One Big Beautiful Bill Act) الذي تم توقيعه في 4 يوليو، والذي يمثل مستوى منخفضاً جديداً – ليس فقط بسبب آثاره المباشرة على الاقتراض الحكومي المستقبلي، ولكن أيضاً لأنه يسخر من فكرة الرقابة المالية نفسها.
القانون يمدد إعفاءات ضريبية كانت قد أُقرّت عام 2017 ضمن "قانون خفض الضرائب وفرص العمل"، بتكلفة تُقدّر بثلاثة تريليونات دولار. المدافعون عنه يقولون إنه لا يخفض الضرائب بل يمنع زيادتها، ويتساءلون: كيف يمكن لعدم زيادة الضرائب أن يُعدّ خطأ ماليًا؟ لكن الواقع أن قانون 2017 لم يكن ليُقرّ لولا افتراض أن تلك الإعفاءات مؤقتة، ولو كانت دائمة لارتفعت تقديرات الدين العام منذ البداية.
وبالتالي، فإن القانون الجديد يكرّس هذه المحاسبة الزائفة كإجراء اعتيادي، ويضيف إعفاءات ضريبية مؤقتة جديدة، مثل تلك الخاصة بالبقشيش والعمل الإضافي، بما يخفي الأعباء الفعلية على المدى البعيد. وتشير التقديرات إلى أن الدين العام سيصل إلى 130% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2034، صعودًا من 100% اليوم، وسط تجاهل تشريعي ممنهج لتدهور الوضع.
حرب الرسوم الجمركية: الضبابية تهدد التجارة العالمية
إلى جانب التحديات المالية، تُضيف التوترات التجارية وعدم اليقين حول استقلالية البنوك المركزية طبقة إضافية من المخاطر. فمع إعلان البيت الأبيض عن جدول جديد للتعريفات "المتبادلة" والتقلبات المستمرة في سياسة التجارة، فإن أفضل السيناريوهات، من وجهة نظر "إجماع واشنطن"، لا تزال سلبية للغاية.
ويضيف كاتب المقال: "ومع ذلك، حتى في أفضل السيناريوهات، فإن فرض رسوم بنسبة 10% كحد أدنى، مع استمرار حالة عدم اليقين، يعني تغييرًا جذريًا في مستقبل التجارة والاستثمار العالمي. هذه السياسات قد لا تؤدي إلى انهيار مالي فوري، لكنها على الأرجح ستقود إلى تباطؤ في النمو وارتفاع في التضخم خلال السنوات القادمة".
وفيما يتعلق بالاحتياطي الفيدرالي، فرغم رفضه حتى الآن الاستسلام لمطالب البيت الأبيض بخفض أسعار الفائدة بشكل كبير، فإن تقارير بلومبرغ تؤكد أن خطر "الهيمنة المالية" قائمة – أي أن يُجبر البنك المركزي على تمويل عجز الموازنة عبر طباعة النقود.
اختيار ترامب لمن سيخلف في رئاسة الفيدرالي سيقدم إشارات حاسمة. لكن واقع أن استقلالية الفيدرالي باتت قابلة للنقاش للمرة الأولى منذ عقود، يضيف مزيدًا من الغموض إلى الأفق الاقتصادي.
هذه العوامل مجتمعة، بحسب المقال، تشير إلى أن الأسواق قد تكون تتجاهل علامات تحذيرية كبرى، وأن تداعيات هذه "الثقة الزائفة" قد تكون وشيكة.
ويرى خبراء اقتصاد في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن أداء الأسواق المالية الأميركية يثير تبايناً في التقديرات بشأن المسار الاقتصادي للولايات المتحدة خلال المرحلة المقبلة، ففي حين يرى طارق الرفاعي، الرئيس التنفيذي لمركز "كوروم للدراسات الاستراتيجية"، أن الأسواق لا تزال مدعومة بالتفاؤل والسيولة المرتفعة، وأن السياسات التجارية للإدارة السابقة ساهمت في تعزيز الأداء المالي، يحذر الخبير الاقتصادي علي حمودي من أن المخاطر تتزايد، وأن الاقتصاد الأميركي قد يكون بالفعل على مشارف ركود، مدفوعاً بارتفاع حالة عدم اليقين وتراجع ثقة المستثمرين.
سياسات ترامب التجارية تدعم الأسواق الأميركية
بدوره، قال طارق الرفاعي الرئيس التنفيذي لمركز "كوروم للدراسات الاستراتيجية"، في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": “إن الأسواق المالية الأميركية ليست على وشك الاصطدام بالواقع الاقتصادي"، مشيراً إلى أن "الأسواق واصلت تسجيل مستويات قياسية بعد اتفاقية ترامب المتعلقة بخفض الضرائب، وهو ما يعكس حالة من التفاؤل بإمكانية استمرار هذا الاتجاه التصاعدي".
وأكد الرفاعي أن "معظم البيانات تشير إلى نمو مستمر في الاقتصاد الأميركي، حتى مع وجود بعض المؤشرات السلبية، وذلك مقارنةً بضعف الأداء الاقتصادي الذي تشهده أوروبا"، مضيفاً أن "دولاً آسيوية بدأت بدورها في العودة إلى النمو، وإن كان بوتيرة أقل من التوقعات، خصوصًا في الصين".
وأشار إلى أن هذا التفاؤل مدفوع إلى حد كبير بسياسات ترامب، لا سيما تلك المتعلقة بفرض الرسوم الجمركية على العديد من الدول، معتبراً أن "النتائج ستكون إيجابية للولايات المتحدة، رغم احتمال أن تكون سلبية بالنسبة لبعض الاقتصادات الأخرى".
وتوقع الرفاعي استمرار الأداء القوي للأسواق الأميركية خلال ما تبقى من العام الحالي، مدعوماً بحالة من التفاؤل الشديد والسيولة المرتفعة، مضيفاً: "ربما نشهد تصحيحاً أو اصطداماً بالواقع الاقتصادي في العام المقبل، لكن في الوقت الراهن لا أرى مؤشرات على ذلك".
وذكر الرفاعي أن الدولار الأميركي شهد انخفاضاً حاداً منذ بداية العام، لكنه بلغ القاع على ما يبدو، ونتوقع أن يشهد ارتفاعاً ملحوظاً قبل نهاية العام، مدفوعاً بالاتفاقات التجارية التي قد تتوصل إليها الولايات المتحدة".
تجاهل التحديات خداع ذاتي قد ينقلب على الأسواق
من جانبه، قال الخبير الاقتصادي علي حمودي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "إن الأسواق كانت تتوقع حدوث ركود اقتصادي منذ بداية العام، وتحديداً بعد ما يُسمى بيوم تحرير التعرفات الجمركية الذي أقره الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الثاني من أبريل الماضي.
وأوضح حمودي أنه لا يعتبر هذا الركود سيناريو أساسياً، ولا يفضل الاعتماد بشكل كبير على التوقعات، لكنه أكد في الوقت نفسه وجود "خطر حقيقي جداً بدخول الاقتصاد الأميركي في حالة ركود خلال هذا العام"، مضيفاً: "قد يكون الركود قائماً بالفعل، أو قد يحدث في الصيف أو الخريف، ولا يمكنني الجزم بمدى عمقه إن حصل".
وأشار إلى أنه "رغم استمرار بعض المؤشرات الاقتصادية الإيجابية، إلا أن كثيراً منها جاء دون التوقعات، أو أقل من البيانات السابقة"، لافتاً إلى أن "حالة عدم اليقين التي تسود الأسواق منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض لا تزال مستمرة".
وشدد على أن "عدم اليقين في السياسات الاقتصادية والتجارية يؤثر سلباً على ثقة المستثمرين، ويدفعهم إلى تبني نهج أكثر تحفظاً في استثماراتهم، وهو ما قد يعرقل النمو الاقتصادي".
وأضاف: "عاجلاً أم آجلاً، ستضطر الأسواق إلى مواجهة الواقع الاقتصادي الحقيقي، وسيدرك المستثمرون أنهم ربما خدعوا أنفسهم بتجاهل التحديات الاقتصادية القائمة".
وأكد أن "ارتفاع حالة عدم اليقين يؤدي بطبيعة الحال إلى تراجع ثقة قطاع الأعمال، ما يدفع الشركات إلى تأجيل أو إلغاء خطط الاستثمار في مشاريع جديدة". وأشار إلى أن "التوقعات الاقتصادية الصادرة عن مجلس الاحتياطي الفيدرالي في يونيو 2025 أظهرت تراجعاً في النمو المتوقع للعامين 2025 و2026، مقارنةً بتوقعات مارس من العام نفسه، وسط توقعات بارتفاع معدلات التضخم نتيجة للرسوم الجمركية".
كما لفت الخبير الاقتصادي حمودي إلى ما وصفه بـ"التحذيرات الأكثر إثارة للقلق"، موضحاً أن تقرير البنك الدولي الصادر في يونيو 2025 تحت عنوان "الآفاق الاقتصادية العالمية"، توقع أن يؤدي التصعيد في الحواجز التجارية واستمرار حالة عدم اليقين السياسي إلى تباطؤ النمو العالمي إلى أدنى مستوى له منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.
واختتم حمودي حديثه بالتأكيد على أن "هذا الوضع يتطلب وقفة جادة من المستثمرين وصناع القرار الأميركيين على حد سواء"، مضيفاً: "يجب أن نتذكر أن التفوق الاقتصادي الأميركي كان مبنياً على الانفتاح والابتكار والتكامل العالمي، والعودة إلى هذه المبادئ وحدها تضمن استمرار الريادة الأميركية في القرن الحادي والعشرين، أما الاستمرار في سياسات العزلة والتخريب الذاتي فقد يدفع بالولايات المتحدة إلى مصاف الاقتصادات الثانوية في عالم كانت تقوده سابقاً".