هل انتهاء خفض الفائدة سيدفع العالم نحو أزمة دين؟
16:47 - 23 ديسمبر 2025
تشهد الأسواق المالية العالمية تحولاً جذرياً، حيث تتجه تكاليف الاقتراض نحو مسارات هي الأعلى منذ ما يقرب من عقدين.
يُعد هذا الارتفاع المستمر في عوائد السندات طويلة الأجل تعبيراً مباشراً عن فقدان الثقة في الاستقرار الاقتصادي المستقبلي، إذ يطالب المستثمرون الآن بعلاوات مخاطر أعلى للتعويض عن المخاطر المتزايدة.
وتُشير الحركة السعرية هذه إلى أن التحديات الهيكلية المتمثلة في التوسع الحكومي الممول بالدين والضغط التضخمي العنيد باتت تؤرق التوقعات طويلة الأمد.
في ظل هذه التطورات، يصبح التساؤل ملحاً حول العواقب المترتبة على السياسة النقدية والمالية العالمية: هل يهدد التضخم والديون الحكومية بوقف نمو الاقتصاد العالمي؟ لماذا وصلت عوائد السندات العالمية إلى أعلى مستوياتها منذ 2009؟ وهل انتهاء خفض الفائدة سيدفع العالم نحو أزمة دين؟
ويُفيد تقرير نشرته وكالة "بلومبرغ" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية بأن فترة طويلة من ارتفاع عوائد السندات طويلة الأجل تُفاقم تكاليف الاقتراض في جميع أنحاء العالم.
وأوضح التقرير أن هذا يعود إلى مطالبة المستثمرين بتعويضات إضافية مقابل الاحتفاظ بالديون الحكومية، في مواجهة عوامل متعددة أهمها العجز المستمر في الموازنات واستمرار التضخم، بالإضافة إلى تزايد التساؤلات حول استقلالية البنوك المركزية.
كما أشار التقرير إلى أن التوقعات بانتهاء دورة خفض أسعار الفائدة قريباً - وربما التحول نحو زيادتها في بعض مناطق العالم - أثرت سلباً على معنويات المستثمرين، دافعةً عوائد الديون طويلة الأجل إلى مستويات هي الأعلى منذ عام 2009.
أزمة الديون العالمية وأسبابها
وذكر التقرير أن القلق بشأن الديون والعجز يزداد، حيث تراكمت الديون الرخيصة على الحكومات عالمياً بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، ثم زادت وتيرة الاقتراض لمواجهة تداعيات جائحة كورونا، حيث بلغ الدين العالمي مستوى قياسياً عند 324 تريليون دولار في الربع الأول من عام 2025، مدفوعاً بفرنسا والصين وألمانيا، حسب بيانات معهد التمويل الدولي.
كما أكد التقرير أن استدامة هذا الاقتراض أصبحت صعبة بعد أن رفعت البنوك المركزية الكبرى أسعار الفائدة وأوقفت برامج التيسير الكمي، بل وبدأت بعضها في بيع الديون التي تراكمت لديها، مما يزيد من الضغط التصاعدي على عوائد السندات.
وأفاد التقرير بأن السياسة شكلت عاملاً رئيسياً في تحريك عوائد السندات مؤخراً، بجانب ضغوط الديون. ففي الولايات المتحدة، أشار التقرير إلى انتقادات الرئيس دونالد ترامب المتكررة لرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول لعدم خفض أسعار الفائدة بسرعة أكبر.
وأضاف: "إن المخاوف بشأن استقلالية رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي القادم تُحفز المستثمرين لطلب فائدة أعلى كتعويض، بناءً على افتراض أن الرئيس الجديد قد يضغط لتخفيضات أسرع، مما قد يؤدي إلى ارتفاع التضخم وارتفاع عوائد السندات مجدداً.
وبحسب التقرير، فإن هذا المزيج من المخاطر العالمية يدفع "علاوة الأجل" (Term Premia) التي يطلبها المستثمرون لعدم اليقين في الاحتفاظ بالسندات لفترة أطول إلى الارتفاع.
العواقب الاقتصادية المباشرة
وأوضح تقرير الوكالة الأميركية أن الارتفاع المفاجئ في عوائد السندات طويلة الأجل يشكل مشكلة خطيرة؛ فعندما تقفز هذه العوائد، فإنها ترفع تكلفة الرهون العقارية وقروض السيارات وديون بطاقات الائتمان، مما يضغط على الأسر والشركات ويُضعف النشاط الاقتصادي.
وحذر من أن استمرار العوائد المرتفعة سيؤثر تدريجياً على تكلفة اقتراض الحكومات أيضاً، مما قد يؤدي إلى "حلقة مفرغة" أو ما يُعرف بـ "حلقة الهلاك" (Doom Loop)، حيث تتسلق مستويات الدين أعلى بغض النظر عن قرارات الحكومات بشأن الضرائب والإنفاق.
واستدل التقرير بتمرد الأسواق الذي أدى إلى سقوط حكومة رئيسة الوزراء البريطانية، ليز تراس، في عام 2022، كمثال على قوة تأثير الأسواق على الاستقرار السياسي.
وطرح التقرير تساؤلات حول مستقبل الديون المتراكمة خلال 15 عاماً من أسعار الفائدة شديدة الانخفاض. ونقل عن جيمي راش، وتوم أورليك، وستيفاني فلانديرز من بلومبرغ إيكونوميكس، أن السياسة والقوى الهيكلية قد تجعل عوائد سندات الخزانة لأجل 10 سنوات بنسبة 4.5 بالمئة هي "الوضع الطبيعي الجديد".
كما أشار التقرير إلى أن أحد السيناريوهات المحتملة هو الركود التضخمي (Stagflation)، حيث يحدث ارتفاع مفاجئ في الأسعار مصحوب بانخفاض في الناتج الاقتصادي، مما يزيد من حالة عدم اليقين ويجبر البنوك المركزية على الاختيار الصعب بين دعم النمو أو قمع التضخم.
الركود التضخمي والمأزق
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال الخبير الاقتصادي الدكتور عماد الدين المصبح أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي: "يهدد التضخم والديون الحكومية بوقف نمو الاقتصاد العالمي بشكل مباشر وملموس، فالتقارير ترسم صورة قاتمة لآلية انتقال هذا التهديد إلى مفاصل الاقتصاد الحقيقي. فعندما ترتفع عوائد السندات طويلة الأجل - مدفوعةً بمخاوف الديون والتضخم - فإن ذلك لا يبقى حبيس الأسواق المالية، بل يترجم فوراً إلى ارتفاع حاد في تكاليف الاقتراض على الأسر والشركات، بدءاً من الرهون العقارية وصولاً إلى ديون الاستثمار والتشغيل. هذا "الضغط" التمويلي يكبح جماح الاستهلاك والاستثمار، وهما المحركان الرئيسيان للنشاط الاقتصادي".
وأضاف: "وما يزيد المشهد تعقيداً هو السيناريو المطروح بقوة لحدوث ظاهرة اقتصادية يطلق عليها (الركود التضخمي)، حيث تتضافر الأسعار المرتفعة (نتيجة الحمائية التجارية والسياسات المالية التوسعية) مع تراجع في النمو وارتفاع معدلات البطالة، مما يضع البنوك المركزية في مأزق استراتيجي بين خياري دعم النمو أو كبح التضخم".
والأخطر من ذلك، هو أنه في حال استمرار العوائد عند مستويات مرتفعة، ستتآكل الميزانيات العامة تحت وطأة خدمة الدين، مما يضطر الحكومات للاستدانة مجدداً لسداد الفوائد، ليدخل الاقتصاد العالمي في "حلقة مفرغة" من التدهور المالي يصبح الفكاك منها معضلة حقيقية، بحسب تعبيره.
أزمة ثقة في قدرة السياسيين على ضبط الانفلات المالي
وفيما يتعلق بأسباب وصول عوائد السندات العالمية إلى أعلى مستوياتها منذ عام 2009 قال الدكتور المصبح: "إن هذا الصعود التاريخي لعوائد السندات على المستوى العالمي هو نتاج مزيج-كوكتيل معقد من المخاطر الاقتصادية والجيوسياسية".
وأوضح أنه من الناحية الهيكلية، بات المستثمرون يطالبون بعلاوة مخاطر أعلى بكثير مقابل إقراض الحكومات لآجال طويلة، ليس فقط تحوطاً من التضخم، بل تعبيراً عن أزمة ثقة في قدرة السياسيين - أو رغبتهم - في ضبط الانفلات المالي.
وأضاف: "يتزامن هذا مع تغير جذري في التوقعات النقدية، حيث تراجعت الآمال بانتهاء دورة التشديد النقدي، بل برزت احتمالات لعودة رفع الفائدة في بعض الاقتصادات (التحول الهيكلي في اليابان، والمخاطر التضخمية المستجدة في الولايات المتحدة)، مما يضغط على اتجاه العوائد نحو الصعود".
وعلاوة على ذلك، يستدرك الدكتور المصبح: "تلعب السياسة دوراً محورياً، لا سيما في الولايات المتحدة، حيث تثير التدخلات السياسية المحتملة في استقلالية الاحتياطي الفيدرالي مخاوف الأسواق من سياسات نقدية مسيسة قد تؤدي لتضخم منفلت، فيلجأ المستثمرون لطلب عوائد أعلى كنوع من التأمين".
وأخيراً، لا يمكن إغفال عامل العرض والطلب؛ فالبنوك المركزية تحولت من مشترٍ للسندات (التيسير الكمي) إلى بائع لها، مما أغرق السوق بالمعروض، من هذه السندات، في وقت تتسابق فيه الحكومات على الاقتراض، وهذا الاختلال يدفع الأسعار للهبوط والعوائد للتحليق، طبقاً لما قاله المصبح.
ورداً على سؤال فيما إذا كان انتهاء خفض الفائدة سيدفع العالم نحو أزمة دين قال الخبير الاقتصادي الدكتور المصبح: "الواقع يشير إلى أننا نسير بالفعل باتجاه حافة الهاوية، وانتهاء حقبة الفائدة المنخفضة يجعل المشهد أكثر قتامة. فالعالم يرزح اليوم تحت جبل من الديون يبلغ 324 تريليون دولار، تم تجميعه بتراخٍ خلال عقد (الفائدة الصفرية). ومع تبدل المناخ النقدي، أصبحت تكلفة إعادة تمويل هذه الديون باهظة ومستدامة لفترة طويلة، مما يجرد الحكومات من المرونة المالية التي تمتعت بها خلال أزمة 2008 وجائحة كورونا".
وأشار إلى أن الأسواق المالية أصبحت بمثابة "حراس يقظين" لا تتسامح مع الانفلات المالي، وقال: "ما حدث في المملكة المتحدة عام 2022 يعد جرس إنذار لما يمكن أن تفعله الأسواق بالحكومات المتهورة. أما في الولايات المتحدة، فالقلق يتفاقم بشكل خاص، حيث تشير التقارير إلى أن تخفيض تصنيف "موديز" للولايات المتحدة والعجز المتوقع بتريليونات الدولارات يؤكدان أن حتى (الملاذ الآمن) الأول في العالم ليس محصناً، وأن استمرار العجز دون ضوابط قد يزعزع مكانة الدولار وسندات الخزانة كوجهة رئيسية لرؤوس الأموال العالمية".
مصدر قلق للجميع
من جانبه، قال الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الله الشناوي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن الارتفاع الكبير في الدين الحكومي على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية والاستجابة الشكلية من قبل سلسلة من الإدارات في جميع أنحاء العالم ينبغي أن يكون مصدر قلق للجميع."
وأضاف الدكتور الشناوي موضحاً أنه في أعقاب الانهيار الهيكلي الذي شهده الاقتصاد العالمي عقب الجائحة، أصبح من الطبيعي ارتفاع التضخم وأسعار الفائدة. وقد رافق ارتفاع الدين الحكومي زيادة في الوساطة المالية غير المصرفية والمراكز قصيرة الأجل ذات الرافعة المالية العالية، مشيراً إلى أن هذه المؤسسات تخضع لتنظيم أقل صرامة، مما يزيد من المخاطر.
وذكر أن الأزمة المالية السابقة أظهرت حجم المخاطر التي يمكن أن تضيفها المؤسسات المالية غير المصرفية إلى الاقتصاد، وأن الركود الذي أعقبها تطلب استجابات نقدية ومالية تسببت في مزيد من التشوهات في التمويل وزادت من الدين العام.
وأوضح الشناوي أن ارتفاع الدين العام يمكن أن يؤدي إلى مزاحمة الاستثمار الخاص، مما يقلل من معدل النمو الاقتصادي المحتمل.
وأشار إلى القنوات المختلفة التي تؤثر من خلالها مستويات الديون الحكومية المرتفعة والمتزايدة سلبًا على النمو الاقتصادي، وهي:
- مزاحمة الاستثمار الخاص حيث يتنافس الاقتراض الحكومي على الأموال في أسواق رأس المال الوطنية.
- ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل بسبب فائض المعروض من الدين الحكومي وزيادة علاوات مخاطر الائتمان.
- ضرائب أعلى مشوهة لتمويل الالتزامات المستقبلية وارتفاع مدفوعات الديون.
- زيادة في معدل التضخم.
التأثير العالمي لدورات أسعار الفائدة الأميركية
وعن التأثير العالمي لدورات أسعار الفائدة الأميركية، رجح الخبير الاقتصادي الدكتور الشناوي أن تحدث أزمة الديون الأميركية قبل الموعد المتوقع لسببين، هما: دورة خفض أسعار الفائدة على الدولار الأميركي التي من المتوقع أن تُسرع الأزمة، بالإضافة إلى التوجه الشعبوي.
ولفت إلى أن تخفيضات أسعار الفائدة على الدولار الأميركي أدت تاريخياً إلى العديد من الأزمات المالية الكبرى حول العالم، مستدلاً بأزمة ديون أميركا اللاتينية عام 1982، نتيجة لما يُعرف بـ (تأثير المد والجزر الدولاري)، حيث تُحرك دورات رفع وخفض أسعار الفائدة المتناوبة التي يقوم بها الاحتياطي الفيدرالي تدفقات رأس المال العالمية.












