هل تنجح أوروبا في فك الارتباط الجزئي مع الصين؟
11:16 - 05 ديسمبر 2025
تدخل أوروبا مرحلة مفصلية في إعادة رسم خريطة سلاسل التوريد والصناعة، في ظل تصاعد النزعة الحمائية عالميًا، واحتدام المنافسة مع الصين والاقتصادات الصاعدة.
بعد عقود من التعويل على العولمة وانفتاح الأسواق، تجد بروكسل نفسها اليوم أمام معادلة معقّدة: كيف تحمي صناعاتها الاستراتيجية دون أن ترفع كلفة الإنتاج إلى مستويات تهدد قدرتها التنافسية؟
في هذا السياق، تتجه المفوضية الأوروبية نحو طرح خطة جديدة لإقرار أهداف صارمة ضمن شعار "صُنع في أوروبا"، قد تصل إلى 70 بالمئة من مكونات بعض المنتجات الأساسية،، وهي خطوة تعكس تحوّلًا استراتيجيًا في التفكير الصناعي الأوروبي، لكنها في الوقت ذاته تفتح الباب أمام تساؤلات كبرى حول الكلفة الاقتصادية، وقدرة القارة على فكّ الارتباط الجزئي مع سلاسل التوريد الصينية التي تشكّلت عبر سنوات طويلة.
بحسب تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز"، فإن:
- بروكسل تدرس تحديد أهداف "صنع في أوروبا" بنسبة تصل إلى 70 بالمئة لمحتوى بعض المنتجات مثل السيارات، في إطار سعيها لإعطاء الأولوية للسلع المحلية وخفض الاعتماد على الصين.
- قال مسؤولون مطلعون على مشروع قانون من المقرر تقديمه في العاشر من ديسمبر، إن هذه السياسة قد تكلف شركات الاتحاد الأوروبي أكثر من 10 مليارات يورو سنويا من خلال دفعها إلى شراء مكونات أوروبية أكثر تكلفة.
- يشرف المفوض الفرنسي في الاتحاد الأوروبي ستيفان سيجورني على الاقتراح، الذي يأتي بعد سنوات من الجهود الفرنسية للتركيز على الإنتاج المحلي في الوقت الذي تكافح فيه الصناعة الأوروبية المتعثرة للتنافس مع الواردات الرخيصة من آسيا، وخاصة في مجال التكنولوجيات النظيفة وبعض الصناعات الثقيلة.
ونقلت الصحيفة عن مسؤول في الاتحاد الأوروبي، قوله إن نطاق التشريع سيعكس السياسات الصناعية الرئيسية للصين "صنع في الصين 2025" و"المعايير الصينية 2035"، والتي دفعت الشركات الأجنبية نحو مشاريع مشتركة مع الشركات الصينية للوصول إلى سوقها.
وأضاف المصدر: "ما نسعى إلى اقتراحه هو تحقيق توازن دقيق بين الحماية الضرورية لصناعتنا والانفتاح، وهو أمر ضروري بالنسبة لأوروبا".
وقد أشارت دول كانت متشككة في السابق مثل ألمانيا إلى أنها بسبب الوضع الاقتصادي سوف تنظر الآن بشكل إيجابي إلى المزيد من القواعد التي تشجع على شراء المنتجات الأوروبية، وهو ما من المرجح أن يؤثر على صناعة السيارات والتقنيات النظيفة، مثل الألواح الشمسية.
وقال ثلاثة مسؤولين من الاتحاد الأوروبي إن عتبات المحتوى المحلي التي تصل إلى 70 بالمئة كانت قيد المناقشة كجزء من خطة السياسة الصناعية، لكن الأهداف سوف تختلف، اعتمادًا على مدى أهمية القطاع ومدى الاعتماد عليه.
تحديات أساسية
من بروكسل، يقول خبير الشؤون الأوروبية، محمد رجائي بركات، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- تحقيق الاكتفاء الذاتي بنسبة 70 بالمئة من السلع الأساسية داخل الاتحاد الأوروبي سيكون أمرًا بالغ الصعوبة لأسباب متعددة.
- دول الاتحاد الأوروبي قامت خلال العقدين الماضيين بإغلاق العديد من المصانع ونقلها إلى دول مثل تركيا ودول جنوب شرق آسيا والصين، بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج داخل أوروبا.
- إعادة هذه الصناعات ستكون مكلفة وتتطلب سنوات طويلة، لا سيما أن الاتحاد يفتقر إلى بعض المواد الأولية والمعادن النادرة اللازمة للصناعات التكنولوجية المتقدمة.
كما يشير بركات إلى أن اعتماد أوروبا على المنتجات الصينية الرخيصة يحدّ من جدوى إعادة التصنيع محلياً، نظراً لارتفاع كلفة اليد العاملة ونقص المواد الخام. ويوضح أن المفوضية الأوروبية تسعى لتعزيز مفهوم "الاقتصاد الدائري"، من خلال تشجيع إعادة التدوير والاستهلاك المستدام، وهو ما ينعكس في زيادة انتشار متاجر المنتجات والملابس المستعملة.
كما يلفت إلى أن قطاع النسيج الأوروبي، الذي كان مزدهرًا في دول مثل بلجيكا، تراجع نتيجة نقل المصانع إلى دول منخفضة التكلفة كالصين وفيتنام والمغرب، مشيرًا إلى أن عودة هذه المصانع ستكون صعبة بسبب فارق الأسعار الهائل بين تكلفة الإنتاج في آسيا وأوروبا.
وفيما يخص الصناعات الدوائية، يوضح أن معظم المواد الأساسية المستخدمة في مصانع الأدوية الأوروبية تأتي من الصين وروسيا، وهو ما تسبب في ارتفاع أسعارها بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.
ويشدد على أن البرلمان الأوروبي تبنى مؤخرًا سياسات تهدف إلى تقليل الهدر الغذائي والاعتماد على تدوير السلع، إلا أن تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل في القطاعات الصناعية والزراعية سيظل تحديًا كبيرًا على المدى القريب، وربما يكون ممكنًا فقط على المدى المتوسط.
صناعة السيارات نموذجاً
في سياق متصل، وبحسب بلومبيرغ، تطلب فرنسا من الاتحاد الأوروبي اعتماد قواعد تلزم شركات صناعة السيارات بتجميع المركبات الكهربائية في المنطقة، حيث تواصل الدول تقديم مقترحات مختلفة في مراجعة التكتل لانبعاثات أسطول ثاني أكسيد الكربون.
أعلنت وزارة المالية الفرنسية أن حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون ترغب في أن تشمل السيارات الكهربائية المباعة في أوروبا 75 بالمئة من أجزائها محلية المصدر، بما يتماشى مع مستويات المحتوى الحالية للسيارات التي تعمل بمحركات الاحتراق الداخلي. وقد وضعت فرنسا بالفعل خطة لتحفيز السيارات الكهربائية المنتجة محليًا.
صُممت إجراءات "صُنع في أوروبا" لتجنب خسائر "كبيرة" في الوظائف في قطاع صناعة السيارات، فضلًا عن خطر "فقدان دعم مواطنينا"، وفقًا لبيان.
قطاع الخدمات
من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي، أنور القاسم، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- "من الواضح أن قطاع الخدمات يتصدر المشهد الاقتصادي في أوروبا.. بينما قطاع التصنيع يشهد تراجعًا ملحوظًا في الأداء".
- قطاعات التصنيع تواجه تحديات متزايدة، أبرزها ارتفاع تكاليف الإنتاج وتزايد الضغوط التشغيلية، ما يدفع الشركات الأوروبية إلى إعادة تقييم استراتيجياتها لمواجهة هذه التحديات المتصاعدة.
- العوامل الخارجية، مثل التوترات الجيوسياسية، تزيد من حدة الضغوط على قطاع التصنيع الأوروبي، وتنعكس سلبًا على قدرته التنافسية.
- كما أن المنافسة الشرسة مع الدول الصناعية الكبرى تجعل الشركات الأوروبية، العامة منها والخاصة، بحاجة ملحّة إلى تحسين الكفاءة وتعزيز الإنتاجية لمواكبة متطلبات السوق العالمية.
ويوضح أن هذا الوضع المعقد يتطلب إعادة التفكير في استراتيجية التصنيع الأوروبي، عبر التحول نحو التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي.
ويختتم القاسم حديثه بالتأكيد على أن هذا التحول سيستغرق سنوات طويلة قبل أن تتمكن أوروبا من منافسة القوى الاقتصادية الصاعدة، وعلى رأسها الصين ودول البريكس، إلى جانب التفوق الصناعي الأميركي.










