الذكاء الاصطناعي يعيد صياغة سوق العمل العالمي
08:52 - 11 يوليو 2025في عالم تتسارع فيه الابتكارات وتتشكل خلاله خرائط اقتصادية جديدة، يتربع الذكاء الاصطناعي على عرش التحولات الكبرى، لا بوصفه أداة تقنية فحسب، بل باعتباره محركًا فعليًا لتغيير قواعد اللعبة في قطاعات المال والتوظيف والابتكار.
فمنذ إطلاق "تشات جي بي تي" أواخر عام 2022، شهد العالم ما يشبه "هزة سوقية" دفعت بشركات التكنولوجيا العملاقة إلى سباق محموم لاستقطاب أفضل العقول، بأسعار لم يشهدها قطاع التكنولوجيا من قبل.
أرقام تتجاوز الخيال ورواتب تضاهي رواتب كبار التنفيذيين
تحولت رواتب خبراء الذكاء الاصطناعي إلى ساحة تنافسية لا تعرف سقفًا. فبحسب المعلومات المتاحة، يتراوح متوسط رواتب كبار مهندسي وخبراء الذكاء الاصطناعي اليوم بين 3 و7 ملايين دولار سنويًا، فيما تصل بعض العروض الشخصية إلى أكثر من 10 ملايين دولار، وفقًا لما تكشفه عروض شركات مثل "ميتا" و"أوبن إيه آي".
وفي حين يحصل باحثو الذكاء الاصطناعي في الشركات الكبرى على رواتب تتراوح بين 500 ألف و2 مليون دولار سنويًا، تؤكد بيانات السوق أن تلك الأرقام شهدت قفزة بنسبة 50 بالمئة على الأقل منذ 2022، تاريخ انطلاق ما يُعرف بثورة "الذكاء التوليدي".
عروض مجنونة... 100 مليون دولار لمهندس واحد!
في خطوة تعكس حدة المنافسة، قدمت "ميتا" عرضًا بقيمة 100 مليون دولار لبعض كبار مهندسي "أوبن إيه آي"، كما عرضت 200 مليون دولار لمهندس سابق في شركة "آبل". هذه الأرقام لم تعد مجرد استثناءات، بل مؤشر على حجم الرهانات التي باتت الشركات التقنية تضخها في معركة استباق المستقبل.
في المقابل، بدأت "أوبن إيه آي" بتطوير آليات جديدة لمكافأة المواهب، بعدما خسرت بعض كوادرها لصالح المنافسين، فيما تمنح العديد من الشركات الكبرى اليوم علاوات تفوق 200 ألف دولار سنويًا لمن يمتلك خبرة متقدمة في هذا القطاع.
لعبة العرض والطلب: من يملك العقول يملك السوق
يرى هاني نوفل، الرئيس الإقليمي للتكنولوجيا لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا في NTT DATA، أن هذه الطفرة في الرواتب تعكس ديناميكية قائمة على العرض والطلب والعائد الاستثماري، خاصة في سوق لم تعد فيه القيمة السوقية للشركات تُقاس بعدد منتجاتها، بل بسرعة إطلاقها ومحتواها الابتكاري.
"القيمة المضافة لأي خبير أو مهندس قد تعني رفع قيمة الشركة السوقية بمليارات الدولارات، ولهذا باتت الشركات الكبرى مستعدة لدفع كل شيء مقابل استقطاب العقول النادرة"، بحسب ما أوضح نوفل خلال حديثه إلى برنامج "بزنس مع لبنى" عبر سكاي نيوز عربية.
تكدّس المواهب ..نحو قطبية تكنولوجية عالمية
بحسب نوفل، تشهد السوق تكدّسًا واضحًا للمواهب في صفوف الشركات الكبرى، التي لا تكتفي بدفع أعلى الرواتب، بل أيضًا تستحوذ على الشركات الناشئة الواعدة بما تحمله من فرق بحثية. "في النصف الأول من هذا العام فقط، تم ضخ نحو 170 مليار دولار لتمويل شركات ناشئة مبنية على أسماء لامعة، حتى قبل أن تنتج هذه الشركات أي منتج فعلي"، وفق تعبيره.
تهديد للقطاع الأكاديمي: مناهج الذكاء الاصطناعي إلى الشركات
واحدة من أبرز التحولات التي تشهدها الساحة، وفقًا لنوفل، هي هجرة الكفاءات من القطاع الأكاديمي نحو القطاع الخاص. فحتى أصحاب الشهادات العليا مثل الدكتوراه في علوم الحوسبة والذكاء الاصطناعي باتوا يفضلون العمل في بيئات الشركات نظرًا للمردود المادي الهائل والفرص المتاحة للإبداع.
هذه الموجة، إن استمرت، قد تخلق فجوة هيكلية في مسارات تطوير البحث الأكاديمي المستقل، وتحصر الابتكار في القطاع الخاص، وهو ما يتطلب، بحسب نوفل، تفعيل الشراكة بين الجامعات والشركات بشكل فعّال.
مشهد وظيفي متغيّر: وظائف جديدة وتخصصات هجينة
لم يعد التوظيف في الذكاء الاصطناعي مقتصرًا على "مهندسين ومبرمجين"، بل بدأت تظهر وظائف جديدة مثل:
- متخصصي أخلاقيات الذكاء الاصطناعي (AI Ethics)
- خبراء تجربة الذكاء الاصطناعي (AIx)
- متخصصي تكامل الذكاء الاصطناعي في القطاعات التقليدية كالقطاع الصحي، المصرفي، والأمني.
الطلب اليوم يتوسع نحو اختصاصيين يمتلكون خلفية مزدوجة: تقنية وقطاعية، وهو ما يعزز الحاجة لتحديث مناهج التعليم وبرامج التدريب في معظم دول العالم.
الذكاء الاصطناعي في المنطقة العربية: فرص واعدة
رغم وجود استثمارات ضخمة في البنية التحتية والتكنولوجيا في الشرق الأوسط، إلا أن نوفل يشير إلى أن "المنطقة ما زالت تعتمد على استيراد الكفاءات من الخارج"، معتبرًا أن التعاون بين القطاعين العام والخاص والجامعات سيكون مفتاحًا لصناعة قاعدة محلية قادرة على المنافسة.
لكن التغيير بدأ. فشركات عالمية كبرى بدأت تفتتح مراكز إقليمية لها في الخليج، وأبدت رغبتها ببناء شراكات مع الحكومات والجامعات، مما قد يُمهّد لظهور "قطب تكنولوجي عالمي من المنطقة".
الذكاء الاصطناعي لم يعد خيارًا.. بل مصيرًا اقتصادياً
في خضم هذه الطفرة التكنولوجية، لم تعد الأسئلة تدور حول جدوى التخصص في الذكاء الاصطناعي، بل حول كيفية اقتناص الفرصة في توقيت دقيق. فالتخصص اليوم لم يعد رفاهية معرفية، بل أصبح أحد أعمدة الثراء الوظيفي والاستراتيجي، في وقت تتشكل فيه ملامح اقتصاد جديد تقوده البيانات والخوارزميات.
بينما تتنافس الشركات لدفع عجلة الابتكار، يبقى السؤال الأساسي: هل تتجه الدول والمؤسسات لتأهيل الجيل القادم كي لا يكون مجرد مستهلك لهذه الثورة، بل شريكًا فاعلًا في صناعتها؟